قراءة فى المجموعة القصصية
(سقط سهواً) للكاتبة الأديبة الدكتورة مرفت محرم : بقلم مجدى شلبى
....................................
تُدخلنا الكاتبة
الأديبة الدكتورة مرفت محرم إلى عالمها القصصى المدهش من خلال البوابة الملكية
لمجموعتها القصصية الجديدة (سقط سهواً) بعد أن أمتعتنا بمجموعتين قصصيتين هما
(مفترق طرق) و(النفق) ...
والمتأمل فى العنوان
الجديد (سقط سهواً) لا يمكن أن يتوقف عند المعنى اللغوى فقط من غفلة أو نسيان لأمر
ما بشكل غير متعمد ... بل يفتح المجال أمام العقل ليسأل عن ماهية هذا الشىء الذى
تعرض للسقوط ؟ ... وهل (السهو) مذكور هنا على نحو حقيقى .. أم تهكمى ؟
إن الحيرة التى
يطرحها العنوان الملغز للمجموعة (سقط سهواً) هى حيرة ممتعة وليست مانعة .. إنها
الحيرة الدافعة لكشف الغموض والسعى نحو إجابات عن تلك الأسئلة التى طرحناها ...
والأسئلة التى يطرحها غيرنا ..
وقبل أن نصول ونجول
فى قصص المجموعة قراءة وتحليلاً وهى القصص التى يجمعها هذا العنوان وتفسر واحدة
بعد الأخرى المعنى المقصود منه .. لا يفوتنا أن نشير إلى هذا الارتباط العبقرى
الذى عقدته الكاتبة الأديبة الدكتورة مرفت محرم بين لفظة (سقوط) بما تحمله من
معانى الهبوط والوقوع والضياع وبين لفظة (سهواً) بما تحمله من معنى الغفلة وعدم
الإدراك ... تنبهنا بلسان حال هذا العنوان ذو الدلالات المتعددة أن (أفيقوا)
فالسقوط لا يأتى إلا من سهو وغفلة:
يسقط الحق الذى ليس
وراءه مطالب .. ويسقط الطالب الذى لايستذكر دروسه .. ويسقط الجنين إذا نزل قبل
تمامه .. ويسقط من عينه إذا أضحى حقيراً... وتسقط القيم والأخلاق إذا تهاونا فيها
.. ويسقط الوطن إذا لم تكن قيادته حكيمة ..
فكل سقوط مما ذكرنا
مرتبط بفعل سلبى ليس مقصوداً فى ذاته لكنه يؤدى إلى تلك النتيجة الصادمة .. فلو
طالب صاحب الحق بحقه لناله .. ولو استذكر الطالب دروسه لنجح .. ولو أتم الجنين
نموه فى الرحم لنجا .. وترتقى القيم والأخلاق إذا حرصنا عليها ... ولو حافظ
الإنسان على كرامته ما احتُقر ... ولو اتسمت القيادة بالحكمة لتقدم الوطن ...
ورغم أن الكاتبة
الأديبة الدكتورة مرفت محرم صاحبة رسالة فكرية أضحت واضحة جلية .. غير أنها لا
تلجأ إلى الإسلوب المباشر فى توجيهها وهذا أمر يُحسب بالتأكيد لها .. ففى سعيها
الدائم والدؤوب نحو طرح غلالة رقيقة وراقية من الغموض على عناوينها تحث القارىء
على الولوج إلى متن القصص لكشف أسرار ما غاب عنه أو ألتبس ... ومن هنا يتضح لنا
جلياً أن عنوان المجموعة (سقط سهواً) يفتح المجال على ساحة رحبة من التأويلات
بدلالاتها العديدة .. ويحفز القارىء لمطالعة قصص المجموعة بشغف شديد .. ليكشف
ويكتشف ما خفى وراء هذا العنوان الرائع من أسرار...
فإذا انتقلنا من
العنوان الرئيسى للمجموعة (سقط سهواً) إلى الهدف منها وجب أن نشير إلى حقيقة أن
هموم الإنسان تنقسم إلى هم خاص وهم عام .. وماحدث من تداخل بين هذا وذاك نتيجة
تأثر الخاص بما هو عام ... جعل كاتبتنا الأديبة الدكتورة مرفت محرم تركز على مايهم
الإنسان؛ فيشغلها هذا وتبذل جل وقتها وجهدها فى سبيل إبراز المشكلات التى يعانى
منها المجتمع بغية الإصلاح .. تشير بإسلوب أدبى راقٍ إلى مواضع الخلل والنقص
والقصور لتعالجها الأيادى الفتية والعقول الذكية والضمائر الواعية والقلوب العاشقة
لهذا الوطن ..
وهى فى أدائها
لرسالتها ومشروعها الفكرى الذى أنتجت من خلاله حتى الآن ثمان كتب أثرت المكتبة
العربية فى مجالات : الشعر (بهجة الروح) و(مصر التى) والمقال المقامى (فى ظلال الحياة) والكتابات
الإسلامية (قطرات من فيض الرسول) والمشاهد والأحداث (الزلزال) والمجموعات القصصية
(مفترق طرق) و(النفق) و(سقط سهواً) ... تعمد إلى الابتعاد عن اللهجة الخطابية .. وتطرح
رؤيتها الثاقبة وأفكارها المتجددة .. من خلال صياغة أدبية راقية .. ولغة سهلة فى
شكلها عميقة فى دلالاتها وهو مايطلقون عليه (السهل الممتنع) والممتع معاً ..
ولأنها الحريصة
دوماً على متابعة ردود فعل النقاد والقراء على ما تكتب .. نجدها تصغى إلى الجميع
.. تناقشهم وتحاورهم بعقلية الباحثة الأكاديمية المتمتعة بمرونة كبيرة وتواضع جم
... وهو ما جعلها دون غيرها تتقدم بخطى حثيثة على درب الإبداع بشكل يغبطها عليه
الكثيرات ..
إن المجموعة التى
بين أيدينا الآن تتألف من خمس وعشرين قصة
متنوعة فى عناوينها .. وموضوعاتها .. ولغتها .. وطريقة سردها ..
ولأن الكاتبة
الأديبة الدكتورة مرفت محرم تتمتع بحس ساخر فقد أضفت على قصص مجموعتها الأخيرة ـ
كعادتها ـ نكهة خاصة مشوقة وممتعة .. تجذب القارىء وتجعله لا ينصرف عنها قبل
استكمالها جميعها .. بل وإعادة قراءتها مرة تلو المرة بشغف واهتمام ..
إن قراءة متأنية
عميقة فى نصوص هذه المجموعة (سقط سهواً) تحتاج إلى مجلدات .. غير أننا فى هذه
المساحة المتاحة سنحاول إلقاء الضوء على قصصها واحدة واحدة بإيجاز ونترك للقارىء
الكريم ومن يأتى بعدنا من باحثين ونقاداً مساحات أخرى يدلون فيها بدلوهم ..
ويطرحون رؤاهم وقراءاتهم ...
........
* القصة الأولى (سقط
سهواً) : وهو ذات العنوان الذى عنونت به
الكاتبة مجموعتها كلها .. بمعنى آخر هى القصة الرئيسية فى المجموعة .. وهو ما
يجعلنا نوليها اهتماماً خاصاً لكونها تشبه كلمة السر التى ستكشف لنا شفرات كثيرة
.. وتجيب على أسئلة عديدة حول مغزى العنوان ودلالته ...
تبدأ القصة بمشهد
الحيرة التى تكتنف التلميذ عندما يطلب منه أستاذة كتابة موضوع تعبير عن الأزمات ..
ولا تكمن مشكلته وسبب حيرته فى عجزه عن التعبير .. ولكنها بسبب ضيق الوقت المتاح
أمام حجم تلك الأزمات المهولة وتنوعها وتعددها... حتى أضحى هو ذاته فى أزمة ..
لكنه استفاد من معلومة لغويه بعد أن قسم كلمة (أزمات) إلى قسمين (أز) و(مات) ..
وهنا تبرز أهمية
إعمال العقل والاستفادة من الإمكانيات والمعلومات فى حل المشاكل والمعضلات .. وأن
تجاهلها يزيدها استفحالاً وخطراً ليس على المواطن فقط .. ولكن على من بيده الحل
أيضاً... هذا هو المغزى من وراء القصة كما أرى ..
والقصة فى سطورها
القليلة عبرت بصدق عن قضية كبيرة (الأزمات).. وهى النقطة المركزية التى تدور حولها
جميع قصص المجموعة وكأنها توثيق لمرحلة من حياتنا توثيقاً أدبياً مهماً ...
.......
* (هرم ماما) : فى هذه القصة المصاغة بإسلوب ساخر تبرز عدة مفارقات
واضحة جلية .. بين الأهرامات الخالدة التى أنشأها أجدادنا ومازالت شاهدة على
عبقريتهم وعلمهم .. وبين الأهرامات التى أنشأها الأحفاد من المخلفات شاهدة على
تخلفنا وجهلنا ... وهى هنا تضعنا أمام السؤال الكاشف : هل نحن نتقدم أم نتخلف ؟!
سؤال يشبه البركان
فجرته بهدوء لكنه سيظل يدوى فى عقولنا إلى أن يجد رجال البيئة حلاً لتلك
(الأهرامات) التى شوهت حياتنا وأقلقت راحتنا وأصابتنا بالعديد من الأمراض ... ففى
بلاد العالم المتقدم لا تُشكل تلك المخلفات مشكلة على الإطلاق بل على العكس فهم
يستفيدون منها فى العديد من الصناعات .. ويستخرجون منها الطاقة التى نعانى من أزمة
طاحنة فيها ...
مفارقة أخرى بين
أهرامات جاذبة للسياحة ـ أحد المصادر المهمة للدخل القومى ـ وبين أهرامات طاردة
لها !
......
* (إنجازات حكومية): فى هذه القصة تستمر الكاتبة فى استعراض أزمة أخرى من أزماتنا
الكثيرة والتى هى فى الحقيقة من صنع أيدينا .. فالكذب والغش والخداع الذى يمارسه
بعض المسئولين تجاه مواطنيهم أضحى فضيحة بكل المقايس .. فهاهو المسئول يحاول تجميل
الصورة القبيحة باستعراض إنجازات وهمية لم يتحقق منها شىء على أرض الواقع ..
وقد استطاعت الكاتبة
بصياغتها الموفقة جداً لهذه القصة أن تصدم (البطل) صدمة إفاقة بمايثبت كذبه وخداعه
.. فلا يجد بداً من أن يتنحى جانباً تاركاً المسئولية لغيره من الكفاءات التى تعمل
أكثر مما تتكلم .. وتحل المشكلات حلاً حقيقياً بعيداً عن تلك البيانات المضللة
والتقارير الوهمية ..
........
* (وسقط الشعار): تأتى هذه القصة استمراراً لمحاولات دق ناقوس الخطر فى
وجه من بيده الأمر لمواجهة عشوائية البناء والاعتداء السافر على الأراضى الزراعية ...
وهى قضية تمكنت
الكاتبة من وضعها فى قالب قصصى بسيط لكنه معبر ويخدم الهدف خصوصاً عندما عقدت تلك
المفارقة بين شعار الثورة الذى يجب أن
يسود ويطبق (عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية) وبين تلك الحفارات التى أسقطت هذا
الشعار .. وهذه الرمزية ذات الدلالة القوية تعمق الفكرة وتنبه القارىء إلى خطورة
هذه الظاهرة المدمرة لثروتنا الزراعية
.........
* (دنيا العذاب): كعادتها تعقد مفارقة ساخرة بين البشر داخل وخارج مستشفى
الأمراض العقلية ... ومن خلال عرضها لمشاهد بدت من خلالها حالة الجنون البشرى لمن
يعتقدون أنهم عقلاء ... خشى الهارب من المصحة النفسية على عقله منهم فقرر العودة
إلى مستشفاه ..
وهنا تبدو الصورة
عكسية فالحاجز الفاصل بين المستشفى والعالم يُظهر النزلاء أكثر أمناً وأماناً
وعقلاً وحرية .. أما غيرهم فهم المحجوزون داخل عالمهم المتسم بالبلطجة والفوضى
والجنون ...
إن هذه القصة على
وجه التحديد تمس مشاعر إنسانية يتعاطف فيها القارىء مع الأطراف الثلاث : مع
النزلاء الذين ربما يكونوا أكثر عقلاً من غيرهم .. ومع من هم خارج الأسوار ممن
فقدوا عقولهم نتيجة ضغوط حياتية اقتصادية واجتماعية مختلفة ... ومع من دفع بعض
المواطنين لمحاربة بعضهم البعض دون النظر لمصلحة الوطن .. وما يؤديه هذا الانقسام
والتصارع من فوضى وانفلات أخلاقى وأمنى وبلطجة وخراب ..
........
* (الاختيار الصعب): فى هذه القصة نرى النموذج المعتاد لحالة الصراع النفسى
الذى ينتاب صاحب القرار عندما يصبح أمام خيارين أحلاهما مر ..
ولقد نجحت الكاتبة
الأديبة الدكتورة مرفت محرم فى اللعب على عنصر الزمن فى هذه القصة : "اقترب
رصيد الوقود من النفاد " .. هذا العنصر الضاغط يضيف عبئاً جديداً .. ويحثه
على سرعة اتخاذ القرار الأصعب فى حياته المهنية ...
وهى بلجوئها للنهاية
المفتوحة : " كل دقيقة تمر تقربه من النهاية التى يحسمها القرار الأصعب فى
حياته كطيار " ... تشرك القارىء فى عملية التفكير .. وكأنها بهذا تطرح عليه
سؤالاً : ماذا تفعل لو كنت مكانه ؟
إن كل إنسان إذا
تأمل المراحل المفصلية فى حياته وجدها نتيجة طبيعية لقرار اتخذه ... فمنا من كان
قراره صائباً فانتقل إلى مرحلة جديدة متطورة أضافت إلى رصيده وحقق فيها إنجازات
إيجابية .. ومنا من عمل العكس من هذا .. فالقرارات هى المحددة للمصائر ..
إن وجوب التسليم بما
قدره الله سبحانه وتعالى للإنسان لا ينبغى أن ينسينا أهمية اتخاذ القرار المناسب
فى الوقت المناسب دون تباطؤ أو تكاسل .. فالذين يتركون أنفسهم للموج يحركهم كيفما
شاء .. أو إلى الريح تدفعهم إلى أى اتجاه .. هم بلهاء يحيون بلا إرادة وكأنهم مجرد
أشياء !
.......
* (التاريخ) : يصل الإهمال مداه عندما يمتد إلى حياة الإنسان وهو فى
أضعف حالاته .. يتناول الدواء منتهى الصلاحية فبدلاً من أن يشفيه يزيده آلاماً
وأوجاعاً ...
ورغم أهمية القضية
المطروحة تتحدث عن الغش وغياب الضمائر .. أرى إن هذه القصة ذات دلالة أبعد وأعمق
من هذا .. فكأنى بالكاتبة المبدعة ترسل رسالتها لكل من يسوقون أفكاراً بالية عفا
عليها الزمن .. فتحذرهم من خطورة نشرها فى مجتمع يتعافى كى لا تزيده تلك الأفكار
تخلفاً ...
وكما أننا فى حاجة
لمراقبة صلاحية الدواء الذى تعرضه الصيدليات للبيع .. علينا أيضاً أن نراقب صلاحية
الأفكار التى يعرضها البعض .. دون أن تخدعنا عمليات الغش المرفوض هنا أو هناك ..
........
* (البيان) : فى هذه القصة تتجسد صورة من صور العشوائية فى إذاعة
ونشر الأخبار .. ثم تكذيبها .. فيفقد المواطن الثقة فى وسائل إعلامه التى هى
المرآة العاكسة لحالة التخبط والعشوائية المجتمعية فى شتى مجالات الحياة ...
فإذا ما ترجمنا هذا النص
الرائع على بعض سلوكيات تعاملنا مع بعضنا البعض لوجدنا أننا نفعل مثل هذا .. فنقول
كلاماً على سبيل اليقين ثم نعدل عنه فى غمضة عين ... نعد بأشياء ثم نخلف الوعد ..
نعزم على شىء ثم نفعل عكسه .. إلخ
إن عرض الكاتبة لهذا
المشهد الواقعى الساخر بهذا الشكل الكاريكاتورى يدفع المتلقى للتأمل وإعمال الفكر
والحكمة فى كل قول وعمل كى لا يتعرض للعنة المصدق له والمردد لقوله حين تنجلى
الحقيقة ويثبت كذب كلامه الذى أذاعه منذ قليل على سبيل اليقين .. ثم تأتى مرحلة
عدم تصديقه إطلاقاً حتى لو نطق بالحقيقة ..
ولعل القصة الشهيرة
لهذا الشاب الذى كان يسبح فى الماء وصرخ مدعياً أنه يغرق .. فلما اقترب منه أحدهم
لينقذه .. وجده يضحك ... وفى غير يوم تعرض للغرق الحقيقى .. لم يحاول أحد إنقاذه
ظناً منهم أنه يمزح
فالكاذب يفقد
مصداقيته كما يفقد اللص شرفه وكرامته .. تلك هى الحكمة البليغة التى نخرج بها من
هذه القصة : " على الهواء مباشرة .. ضرب كفاً بكف .. ولعن صاحب البيان ..
ومكذبه فى آن .. فأظلمت الشاشة وانقطع الإرسال"
......
* (الدموع الحائرة)
: فى هذه القصة تتجلى أزمة جديدة من
تلك الأزمات التى عنيت بها الكاتبة وأبرزتها على هذا النحو الجلى باهتمام .. تلك
هى أزمة الثقة بين البشر بعضهم البعض .. وبريشة فنانة ورؤية مبدعة .. جعلت أزمة
عدم الثقة موجعة أكثر .. حيث تناولتها من خلال صديقين حميمين ...
وقد وضعت الكاتبة
الأديبة الدكتورة مرفت محرم نهاية قصتها بشكل مؤثر تأثيراً كبيراً على النفس
الإنسانية .. فحين يقابل أحدهم إحسانك بإساءة .. وعطاءك بجحود .. وحبك بكراهية ..
لاتملك إلا أن تكرر ماذكره (باسم) بأسى : " طاهر... ألهذا الحد يا طاهر تسىء
الظن بى... وأنا الذى دفعنى الوفاء لأن أبيع هاتفى لأرسل لك ماطلبت.. أنا خائن
العهد ؟!.. أنا المتخلى عنك ؟!.. لم تظلمنى يا أعز الأصدقاء ؟!"
ثم ننفجر بالبكاء
معه حزناً على تلك الثقة التى فُقدت .. والوفاء الذى واراه الجحود ...
وهناك حكمة أخرى
نستخلصها من القصة وهى عدم التسرع فى الحكم على الآخرين ... ثم اتخاذ مواقف عدائية
لمجرد أوهام أو تخيلات ... فكما نود أن يعذرنا الناس فى بعض مواقفنا .. يجب أن
نعذر غيرنا أيضاً ..
.......
* (الصيد الثمين) : "يخرج ممتطياً موج البحر على ظهر قاربه الصغير ..
عازماً ألا يعود إلا بصيد وفير" بتلك العبارة الكاشفة بدأت الكاتبة قصتها
التى أوصلت بطلها إلى صيد سمكة كبيرة كانت تكفيه .. ولكنه طمع فى المزيد :
"عزم على عدم الاكتفاء بها".. وعلى طريقة (الطمع قل ماجمع) يأتى الحوت
فى غفلة منه فيقتنصها ...
والقصة لها بعد آخر
يؤكد ما ذكرناه سابقاً فى مقدمة هذه الدراسة.. فالسهو والغفلة يؤديان إلى السقوط
فى مستنقع العوز والفقر .. فتضيع من بين أيدينا الثروات .. ثم نندم وقت لاينفع
الندم ..
........
* (الدليفرى) : والسقوط سهواً فى مستنقع أمراض القلب بسبب الاعتماد
على تلك الوجبات السريعة الجاهزة ...
هنا نجد الكاتبة
تتحدث بلغة العلم محذرة من تلك المخاطر .. فى ذات الوقت تتعمق فى أصل المشكلة ..
فتبدأ قصتها بـ " يعودان من عملهما وقد نال منهما الإرهاق" .. فالرجل
يكفيه العمل خارج البيت أما المرأة العاملة مطلوب منها أن تعمل خارج البيت وداخله
أيضاً .. فرغم عودتهما معاً بنفس درجة الارهاق والتعب إلا أنه : " يتقمص دور
(سى السيد) ويتعجل الطعام " .. تلك التفرقة وهذا الظلم الواقع على جنس النساء
دفع كاتبتنا ـ رغم أن هذا ليس موضوع القصة ـ إلى أن تعرج عليها وتشير إليها معبرة
عن واقع تحياه كثير من الأسر وتعانى بسببه كثيرات من السيدات العاملات ...
ولعل اللافت للنظر
هو قدرة الكاتبة على توظيف العلم توظيفاً أدبياً فتنهى قصتها بمقارنة بين الوجبات
الجاهزة الدسمة وبين الوجبات الصحية الخفيفة .. فتنتصر للأخيرة انتصاراً تؤيده
الدراسات الطبية والأبحاث العلمية المتخصصة : "يجهز الطعام: أرغفة من الخبز
الأسمر وقطعة من الجبن القريش"..
تلك هى القيمة
الغذائية العالية والمفيدة التى سقطت سهواً من وجباتنا فى خضم تقليدنا الأعمى وتسرعنا
المقيت واعتمادنا على الوجبات الجاهزة (الدليفرى) ...
.......
* (اللافتة) : من خلال هذه القصة تجدد الكاتبة الأديبة الدكتورة مرفت
محرم تحذيراتها من عاداتنا الغذائية السيئة المتمثلة هنا فى تناول مشروب الشاى
بشراهة ... والقصة لا تكتفى بهذا المعنى ولكنها تطرح قضية من القضايا الأخرى التى
لا تقل أهمية .. فبعبارة ساخرة بدأت قصتها: "ما أكثر اللافتات غير الملفتة فى
حياتنا" ... وراحت ترصد حالات عديدة لواقع الانفصال الحاد بين اللافتات وعدم
الالتفات .. بين المظهر والجوهر .. بين الشكل والمضمون .. بين الأقوال والأفعال .. بين الوزن والقيمة ... بين
المتن والثيمة .. بين الظاهر والباطن .. بين الشكلانية والعمق .. بين السر
والعلن.. بين الأبصار والقلوب .. بين الجسد والروح .. بين القشور والمقاصد .. بين
المبادىء النظرية والسلوك العملى ...
إن التكريم
الذى يلقاه الضيف يجب أن يكون بما يفيده .. لا بما يضره .. ومع هذا فقد سعى المعلم
فى هذه القصة لتغيير تلك العادة مستخدماً وسيلة البحث العلمى الذى طبعه ووزعه ..
بعد أن فشلت لافتتة التى راحوا يتهكمون عليها ويتحدونها بشرب المزيد من هذا الشاى
اللعين : " لم يلتفت أحد لتلك
اللافتة بل راحوا يتهكمون عليها ويتحدونها بشرب المزيد والمزيد "
هذا التحدى
الذى يضيف إلى أجسادهم عبئاً جديداً وضرراً صحياً أكيداً .. لكنه العناد الذى يهلك
العباد ...
ولأن كاتبتنا
تدرك تماماً مهمة الأديب باعتبار أن الأدب هو ما يُتأدب به فينهانا عن المقابح
ويحثنا على المكارم .. فهى تحاول فى قصصها تقويم السلوكيات الخاطئة التى منها ما
أوضحناها وما سنستوضحه فيما هو آت من قراءات ..
.......
* (الليل
وآخره) : بطريقة مختلفة عن
قصصها السابقة بدأت الكاتبة هذه القصة بوصف الزمان والمكان : " ساعة الحائط تدق معلنة انتصاف الليل .. وهو موعد إغلاقه
لصيدليته " وبهذا مهدت للقصة
تمهيداً مشوقاً يهيىء القارىء لاستقبال الأحداث .. تلك الأحداث التى تمثلت فى لص
يستغل ذكاءه فى عمل إجرامى وهو سرقة صيدلية بحيلة من الحيل المبتكرة ..
إذاً أمامنا
نموذج للذكاء والابتكار والإبداع لدى شاب لكنه ذكاء وإبداع وابتكار موظف توظيفاً
عدوانياً إجرامياً .. والرسالة فى هذه القصة أقرأها من زاوية أن السقوط فى براثن
الشر ليس فى كل الأحوال نتيجة جهل وغفلة .. ولكنه فى بعض الأحيان يكون نتيجة ذكاء
وفطنة على غير ما يتوقع الجميع .. وهنا تكمن مفارقة أخرى من تلك المفارقات التى
تجيد كاتبتنا اللعب عليها بحرفية وتميز ...
هو سقوط
مقصود من أجل الحصول على منافع وقتية تحدياً لكل الأعراف والقوانين بمجازفة
شيطانية غير محسوبة ولا مأمونة العواقب ..
ولأن سقوط
اللص فى براثن الجريمة ـ كما ذكرنا ـ ليس ناتجاً عن غفلة بل بتخطيط وإعداد وترتيب
.. يعقبه فى كثير من الأحيان سقوط فى يد العدالة نتيجة استمراء الفعل والسهو عند
تكرارها أو تتبع خيوطها من الجهات الأمنية المتخصصة ...
وعلى الطرف
الآخر هناك سقوط للضحية فى هذا الشرك الذى نصبه اللص ونفذه بحرفية وإتقان ..
مستغلاً سلامة نية الضحية وغفلته ...
.........
* (خطأ فى
الاتصال) : قصة بدأتها الكاتبة
بالنهاية ثم سردتها على طريقة (الفلاش باك) : " جمع بينهما الحب .. لم تدم خطبتهما شهوراً معدودة" .. تلك المفارقة فجرت سؤالاً فضولياً : ما الذى
أفسد هذه العلاقة المبنية على الحب ؟
فتأتى
الإجابة المدهشة أن الحبيب والخطيب: " قابل اتصالاتها مؤخراً رسالة مسجلة نصها :(خطأ فى الاتصال)"
وهى هنا تطرح
مشكلة حقيقية يتعرض لها المتعاملون مع بعض شركات المحمول : تطلب رقماً .. فيأتيك
الرد : التليفون مغلق أو غير متاح ... أو خطأ فى الاتصال ... إلخ .. فى الوقت الذى
يؤكد فيها المطلوب أنه لم يغلق الهاتف ولم يغير الرقم ! ... وفى حالة التسرع قد
تتسبب هذه الرسائل المسجلة الخاطئة فى إفساد علاقة وإنهائها على نحو ما ورد فى هذه
القصة ...
تلك هى
القراءة المباشرة للنص .. وحتى لا نلقى بالتبعة كاملة على الآخرين وننسى الدور المفروض
علينا .. يجب أن نقرأ مابين السطور ... فنحصن علاقاتنا بالآخرين بقوة مانعة لهذا
الانهيار السريع .. فالنموذج المعروض للعلاقة بين الحبيبين المشار إليهما فى القصة
نموذج لارتباط أوهن من خيوط العنكبوت ...
........
* (ذهب
القرد) : "المصائب لا تأتى فرادى" بهذه العبارة البليغة بدأت القصة التى
نكتشف فيها كم من المفارقات الساخرة والمعبرة عن واقع إنسان بسيط يعمل (قرداتى)
تلك المهنة التى يتكسب منها قوته وقوت قرده يوماً بيوم ...
وعندما ضاقت
واستحكمت أزمته المعيشية .. فقد سلطانه على قرده .. الذى تمرد على العيش معه تلك
المعيشة (الضنك) .. وفضل العودة إلى عالمه (عالم الغابة) الذى لا يجوع فيه ولايشقى
..
ولعل هذه
القصة تشبه فى مضمونها الشكلى قصة (دنيا العذاب) من حيث الهروب ثم تفضيل العودة
على الاستمرار فى المعيشة فى عالم الجنون والفقر ...
الأكثر
إدهاشاً أن يذهب الإنسان خلف القرد هرباً من عالمه البشرى فـــ: " يستقبله القرد باستعلاء ...وتجتمع الحيوانات حوله تتفرج
على مهارته وهو ينام نوم العجوز ويعجن عجين الفلاحة "
هذه العبارة
المؤلمة الموجعة رغم سخريتها اللاذعة .. تفتح الباب واسعاً أمام العديد من
التأويلات التى على رأسها ما يتعرض له بعض الشباب الباحث عن فرصة عمل فى بلاد
الغربة .. من امتهان كرامة واستعباد ...
من هذا
المنطلق نؤكد على إن المتعة الحقيقية فى قراءة هذه المجموعة (سقط سهواً) تكمن فى
استخدام الرمز وعمق الدلالة ...
.......
* (الطبيعة
تتفاعل) : لقد حركت الثورة كل
راكد ذليل .. وجاءت هذه القصة مؤكدة على هذا المعنى من خلال جملتها الأخيرة ..
وحكمتها الأثيرة : " الطبيعة
تخرج عن صمتها وتعلن عصيانها وتمردها على القهر والظلم والفساد .. وتطالب هى
الأخرى بتغيير النظام "
وبقراءة لنص
الحوار نكتشف أحقيتها فى هذه الثورة علينا : " ـ أهذه عدوى الثورة انتقلت إلى الطبيعة ؟
ـ ربما .. ألا ترى
أننا ظلمناها هى الأخرى كثيراً
ـ كيف نظلمها وهى
المتحكمة فينا ؟!
ـ تبوير الأرض
الزراعية أليس اعتداءاً على الطبيعة ؟! .. الأدخنة المتصاعدة من المصانع أليست
اعتداءات على الطبيعة ؟! .. تلويت مياه البحار والأنهار بالمخلفات الكيميائية
والعضوية أليست اعتداءات سافرة على الطبيعة ؟!"
وليس من
العدل أن نثور على الظلم ونحن نمارسه ضد غيرنا بل ضد أنفسنا .. هذا هو المغزى من القصة كما أراه
وأضيف إلى
هذا المعنى الكثير من العبارات المأثورة الحكيمة ذات العلاقة منها على سبيل المثال
: (اتق شر الحليم إذا غضب) و(كثرة الضغط تولد الانفجار) ... إلخ
.........
* (طبق اليوم) : فى هذه القصة تهكم وسخرية من تلك البرامج التى تخاطب مطاعم
الفنادق السبع نجوم دون غيرها .. معتمدة فى برنامجها الشهير (طبق اليوم) على
مكونات ليس فى مقدور المواطن البسيط شراءها على نحو ما ورد: " ـ حرام عليكم
.. وجبة واحدة تكلفنى نصف مرتبى .. فماذا أفعل بالنصف الأخر بقية الشهر .. ألا
تشعرون بحال المواطن البسيط ؟! .. أين تعيشون ؟! ... ولمن توجهون رسالتكم
الإعلامية؟! ارحمونا يرحمكم الله ... ربنا يــ "
وبتلك الصرخة
المدوية أنهت الكاتبة قصتها ..
ولاشك أن ماعرضته
الكاتبة هو نموذج فقط للعديد من البرامج الأسرية والسياسية والاجتماعية .. فضلاً
عن برامج الأطفال التى تؤدى بمتابعيها إلى السقوط فى مستنقع التخلف العقلى لا
محالة !
.........
* (نداء واستغاثة) : تنتقل الكاتبة من خلال هذه القصة إلى قضية خطيرة هى
قضية التعليم .. فتلقى الضوء على هجرة الطلاب لمدارسهم حتى أضحت أطلالاً يبكى
عليها الراوى : " نعم يا أمى .. وحاضنة علمى .. وراعية أدبى .. وداعمة فكرى
.. ومانحة أملى .. مايحزنكِ يامن بكِ أعتز وأفخر .. "
فتجيبه بتأثر بالغ :
" لقد هجرنى الأبناء .. إلى غير موضع .. وأهملنى المسؤولون بغير ذنب .. أشعر
بالفراغ القاتل والوحدة والألم "
والمدهش هنا أن تعرج
الكاتبة على قضية أخرى أكثر أهمية بلمسة سحرية وعبارة ذكية ألا وهى قضية ضعف
الانتماء .. : " أنظر إلى ساحة الطابور التى هجرها أبناءها .. وأرفع رأسى نحو
العلم وأستعيد صوتنا الهادر خلف تحية العلم "
إن السلام الوطنى
وتحية العلم له دور هام فى تقوية جذور الانتماء حتى لا تعصف بها رياح الغربة
والاغتراب ...
نعود فنؤكد على أن
هجرة الطلاب لمدارسهم واعتمادهم على الدروس الخصوصية .. حرمهم ضمن ماحرمهم من هذا
الغذاء الوطنى الهام ...
إن هذه القصة قد
نكأت جرحاً عميقاً .. فلا يمكن أن يحل الأفراد محل الدولة فى قضاء شئونهم :
المدارس تُغلق وتُفتح بديلاً عنها مدارس خاصة فى البيوت .. الكهرباء تُقطع وتولد
الكهرباء من خلال مولدات منزلية .. المستشفيات تُغلق ونعود القهقرى للعلاج
بالوصفات الشعبية والقرب والمسكنات ..
إن القصة الرمز تحرك
أفكارنا لمحاولة إيجاد حلول قبل أن يستفحل الأمر فيتحول كل فرد من أفراد الوطن إلى
دولة مستقلة بذاته .. ويسعى كل فرد لأخذ حقه بذراعه .. فيسقط الوطن فى مستنقع
الفوضى والخراب
وهذا مالا يرضاه كل
وطنى شريف ...
......
* (من واقع الحياة) : قصة إنسانية أبكتنى بحق عندما قرأتها .. لقد استطاعت
الكاتبة أن ترويها على لسان طبيبة المستشفى فهى المتابعة الأقرب للأحداث .. وبحسب
ماجاء على لسانها : " لاتسألنى عن عمرى الآن .. فكل يوم يمر علىَّ فى هذه
الدار يضيف إلى عمرى أعواماً كثيرة من هول ما أرى من مشاهد حزينة مريرة "...
والقضية المطروحة فى هذه القصة الواقعية ـ بحسب عنوانها
ـ هى قضية جحود الأبناء الثلاث بامهم ... جحوداً يتعللون فيه بانشغالهم بأمور أخرى
على شاكلة : " أحدهم مسافر للخارج لعقد صفقة تجارية .. والآخر يقضى أجازته
السنوية بأحد الشواطىء السياحية العالمية .. والثالث مشغول بإجراءات بناء برج على
ضفاف النيل" !...
لقد نسوا أمهم أو تناسوها فى خضم انشغالهم بتلك الأمور
.. ولم يتذكروها أو يهتموا بزيارتها إلا عندما زارهم المرحوم والدهم فى المنام وعنفهم
... فذهبوا لزيارتها فوجدوها جثة هامدة ....
إننا أمام مشهد من المشاهد التى يمكن رؤيتها بطريقة
مباشرة .. ويمكن رؤيتها من زاوية رمزية ذات دلالة أعم وأشمل .. فجحود بعض أبناء
الوطن بامهم مصر هو من أقسى ألوان الجحود ..
إن هذه القصة شأنها شأن جميع قصص المجموعة تستخدم لغة
الرمز فتفتح المجال أمام المتلقى للعديد من التأويلات ..
......
* (القيمة المفقودة) : لا قيمة فى علم بدون خلق .. ولا تقدم لحضارة دون التزام
بالقيم .. تلك هى الحكمة البليغة التى لخصها بيت الحكمة لأمير الشعراء :
إنما الأمم الأخلاق مابقيت .. فإن همُ ذهبت أخلاقهم
ذهبوا
وجميل أن تنهى الكاتبة قصتها (القيمة المفقودة) بهذا
البيت الذى لخص المعنى وأكد الفكرة ..
ولعل المفارقة بين أخلاق القرية وأخلاق المدينة قد جاءت
على نحو يثير الكثير من اللغط والجدال .. فما طرحته القصة من تفضيل لأخلاق الريف
على أخلاق المدن له وجاهته من حيث ارتباط الأخيرة بالزحام الذى تنشأ عنه سلوكيات
أنانية .. عدوانية .. بعيده فى كثير من الأحيان عن السلوكيات الريفية المنضبطة ...
غير أن هناك نظرية أخرى مخالفة ولها وجاهتها أيضاً تكمن
فى ارتباط الحضارة والتقدم فى المدن بالتحضر والتقدم فى السلوك .. حتى أضحى وصف
الإنسان بالمتحضر معبراً عن اتساق مظهره الراقى مع خلقه النبيل ... وعلى الطرف
الآخر تأتى تلقائية وعفوية بعض أهل الريف على نحو بعيد كل البعد عن اللياقة .. بل
وتثير الاشمئزاز والقرف فى أحيان كثيرة
وواقع الأمر أن إعجابنا بهذا القصة ينبع من كونها تفتح
الباب أمام القارىء للمناقشة والجدل .. القبول والاعتراض .. الرأى والرأى الآخر
...
......
* (هيبة زمان) : بخدعة ذكية استطاعت الكاتبة أن تشحذ مشاعرنا للتعاطف مع
هذا الضعيف الذليل الذى يتعرض للاحتقار والمهانة .. من بعد قوة .. وكدت أصرخ فى وجه
هؤلاء : (إرحموا عزيز قوم ذل) ..
هذا النموذج من
البشر الذى جار عليه الزمان موجود بيننا .. لكن المفاجأة التى فجرتها الكاتبة هى
تلك العبارة الأخيرة التى كشفت بها عن وجه هذا الذليل المهان هى : " يلعن تلك
الأيام التى ضحضحت قوته .. وأضاعت هيبته .. أمام غيره من العملات " ...
فنكتشف أن المقصود
بهذا الوصف الساخر هو (الجنيه المصرى) الذى فقد قيمته وضاعت هيبته على نحو مهين ..
والمفارقة هنا بين
قيمته فى الماضى وقيمته الآن هى التى حركت المشاعر وصنعت التعاطف .. ليس معه فى حد
ذاته ولكن مع المتعاملين به
........
* (سر الكنز) : تقترب هذه القصة من قصة آدم وحواء (الشجرة المحرمة) ..
فهنا مثلما كان هناك:
هنا نهى عن فتح
العلبة .. وهناك نهى عن تناول الثمرة .. هنا الشيطان يوسوس له ان افتح العلبة لترى
الكنز .. وهناك وساوس الشيطان أن تناولا الثمرة فهى ثمرة الخلد .. هنا يفتح العلبة
فيجدها فارغة فيهبط من سماء الأحلام والأمانى إلى أرض الخزى والإحباط .. وهناك
ينالا العقاب فيهبطان من الجنة إلى الأرض ...
إن الشيخ فى قصة (سر
الكنز) أراد أن يعلم مريده الحكمة .. فمن يتعجلها يفقدها .. ومن سعى إليها هربت
منه ..
ذلك لأن الحكمة هبة
من الله بنص الآية القرآنية (يوتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراُ
كثيرا) البقرة 269
وكما ترتبط الحماقة
بالطيش وفساد العقل .. ترتبط الحكمة بالهدوء والاتزان وعدم التسرع ..
وبطل القصة هنا قد
تسرع ففقد الحكمة .. وفقد بفقدها هذا الكنز الثمين الذى عنونت به الكاتبة قصتها ..
......
* (أزمة ضمير) : من أفضل قصص المجموعة هذه القصة التى استطاعت الكاتبة
أن تعتمد فيها على ذكاء القارىء اعتماداً كلياً .. فاكتفت بالأوصاف الدالة على
(الحمار) دون ذكر اسمه صراحة : " نهق ومن قسوة آلامه نطق
" و " هل من حقك أن تضربنى ؟! .. هل من حقك أن تحملنى مالا أطيق وأصمت
؟! .. "
إن الحوار فى القصة لم يكتف بالإشارة الواضحة للعلاقة
الفاضحة فى تعامل الإنسان مع الدواب تعاملاً قاسياً عنيفاً .. بل عرج على قضية
هامة هى المفارقة بين عالم الإنسان وعالم الحيوان .. عندما يتهكم الحمار على مايصنعه
البشر من مخالفات لكل المشاعر الإنسانية بل والشرائع السماوية والتعاليم الدينية :
" متاجرتكم فى أعضاء إخوانكم.. ونسيانكم أو تناسيكم لكون الإنسان على أعضائه
مؤتمن وليس من حقه أن يبيعها ويقبض الثمن .. وهى لديكم أمانة نُسألون عنها يوم
القيامة..."
ثم يسأل سؤالا استنكارياً : "هل رأيت فى عالمنا من
يفعل مثلما تفعلون ؟! .. "
إن النظرة الأشمل والأعم لهذه القصة الرائعة يمنحنا حكمة
بليغة مفادها : القسوة فى التعامل واستخدام العنف والقهر لا يولد إلا الكراهية
والعداء ..
فهل ينتبه غلاظ القلوب ومنعدمى الشعور إلى تلك الحقيقة
قبل أن يستدعى العنف عنفاً مضاداً ؟
......
* (المُعلم) : بصياغة مقامية بديعة تميزت هذه القصة عن سوابقها .. والمفارقة هنا معقودة
بين عالم الإنسان وعالم الغربان فى موضوع هام .. هو تحقيق العدالة بلا مجاملة ولا
محاباة .. هكذا يفخر الغراب بكونه معلم الإنسان ويعتب علينا أن احتقرناه ولم نعترف
بفضله : "لا تنس أيها الإنسان أن عالم الغربان هو الذى علمكم كيف توارون
سوءاتكم .. فهل من الوفاء أن تعادونا وتطلقون علينا ماليس فينا ؟!"
إن الفصل بين السلطات طبقاً لما تقرره الدساتير يعنى عدم
تدخل سلطة فى شئون سلطة أخرى .. بما يحقق
استقلال قراراتها وأحكامها بعيداً عن الضغوط أو الانحيازات .. لكن واقع حال البلاد
المستبدة غير هذا الحال .. وربما هذا ما أرادت الكاتبة أن تشير إليه فى قصتها التى
أنهتها بسؤال الغراب: " أليس القضاء عندكم مثلنا .. يتمتع بالاستقلال التام
دون تدخل من سلطة الحكام ؟ "
وبلغة الصمت تأتى الإجابة .. على طريقة (الصمت فى أحيان
.. يكون أبلغ من الكلام)
........
* (باب النفق) : تأتى قصة (باب النفق) طارحة قضية مهمة من القضايا القومية التى مازالت
مفتوحة كجرح لم يلتئم .. مفتوح عن آخره .. بكل ما يشكله هذا الفتح من خطورة على
الأمن القومى .. ومصلحة البلاد والعباد ...
ولقد بدأت القصة بعبارة منبهة محذرة : "المتربصون
بنا لن يتركونا فى حالنا " .. أتبعتها بعبارات تشير إلى أن الصراع بيننا وبين
العدو لم ينته بانتهاء المعارك الحربية : ".. لأنها انتقلت إلى حرب أخرى
يشنها العدو علينا بدهاء ومكر وخديعة "...
ولاشك أن المبيدات والهرمونات المحظور استخدامها دولياً
هى التى تسببت ومازالت تسبب فى انتشار أمراض سرطانية كثيرة لم تكن معهودة ولا
موجودة فى مجتمعنا قبل دخول هذا البلاء .. من خلال من وصفتهم الكاتبة :
"أصحاب الضمائر التى سقطت سهواً فى مستنقع الفساد .."
ولاشك أن انتشار الأنفاق على الحدود ساعد بشكل كبير على
عمليات التهريب بعيداً عن رقابة الأجهزة المعنية ...
والمفارقة هنا تكمن فى وصفها بـ(المبيدات الزراعية) التى
من المفترض أنها تقضى على الحشرات الضارة بالنبات ليقوى ويزداد صحة ومنعه .. فإذا
بها محظورة دولياً وأصبحت تعمل عمل (المبيدات البشرية) فتصيب الإنسان بالعديد من
الأمراض المهلكة ...
فيالها من كاتبة رائعة ومبدعة .. موضوعات قصصها متعددة
ومتنوعة .. مهمومة على الدوام بمشاكل الإنسان والوطن .. ترصد مايعانيه من محن
وآلام مفزعة وموجعة ..
......
* (الجريمة) : تختتم الكاتبة مجموعتها القصصية بقصة افتراضية تصورت فيها نهر النيل
العظيم من كثرة تعرضه لحالات الاعتداء السافر قد رفع قضيته إلى القضاء .. لينال
حقه من هؤلاء المعتدين ..
وقد استخدمت الكاتبة فن المقامة فى صياغة قصتها : "
المصريون القدامى قدسوا المكانة .. وقابلوا السخاء بالوفاء فى يوم عيد .. ورتلوا
الابتهالات والأناشيد .. وكنت بهذا التكريم جد سعيد ... "
وعقدت مفارقتها المحزنة بين ماضيه وحاضره .. لتكشف عورات
سلوكنا وتعاملنا المؤسف معه .. منبهة لأهمية تحرك الجهات المعنية (خبراء البيئة)
بدورهم كى يعود النيل كما كان وكما يجب أن يكون شريان الحياة لكل المصريين ..
.......
أخيراً وليس آخرا ..
نوجه تحية عرفان
وتقدير للكاتبة الأديبة الدكتورة مرفت محرم على ما قدمته فى هذه المجموعة من قصص
تحاكى الواقع وتبرز متناقضاته ومفارقاته بإسلوب أدبى راقٍ ومشوق ... فضلاً عن تلك الرسائل
الموضوعة بذكاء وحرفية بين السطور .. كى تضيف كل قراءة جديدة رؤية أوسع وأعمق من
سابقتها ...
إن (سقط سهواً) مجموعة
قصصية متميزة تستحق القراءة مرات ومرات .. لنستخرج منها اللالىء والدرر ..
وهى إضافة مهمة على
طريق إبداع كاتبة وأديبة جمعت فى قصصها بين الجدية والسخرية .. وبين الواقع المؤلم
والمستقبل المأمول ..
تحية تقدير للكاتبة
التى وظفت الأدب فى خدمة قضايا المجتمع بهذا الشكل غير المسبوق ...
وإلى مزيد من التقدم
على درب الإبداع والتميز ،
الأديب مجدى شلبى
8/6/2013